ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة .
ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم .
ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخاً في الدين وعزوفاً عن الشهوات ، وتفانياً في سبيل المرضاة ، وحنيناً إلى الجنة ، وحرصاً على العلم وفقهاً في الدين ومحاسبة للنفس .
يطيعون الرسل في المنشط والمكره .
وينفرون في سبيل الله خفافاً وثقالاً .
قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً وعشرين مرة في عشر سنين . وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة .
فهان عليهم التخلي عن الدنيا وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم .
ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه . وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها .
وانحلت العقدة الكبرى- عقدة الشرك والكفر- فانحلت العقد كلها وجاهدهم الرسول جهاده الأول فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي .
وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى- فكان النصر حليفه في كل معركة ،
وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى .
حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ، وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد
نزل تحريم الخمر والكئوس المتدفقة على راحاتهم ، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ، وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة .
حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم ، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم .
وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم .
وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة وفي اليوم رجال الغد .
لا تجزعهم مصيبة ولا تبطرهم نعمة ولا يشغلهم فقر ولا يطغيهم غنى ولا تلهيهم تجارة ولا تستخفهم قوة ، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً .
وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين .
وطَّأ لهم أكناف الأرض وأصبحوا عصمة للبشرية ووقاية للعالم وداعية إلى دين الله .
واستخلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته .
(من كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - أبو حسن الندوي)